فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر السابقين في الخير بصنفيهم مشيرًا إلى السابقين في الشر بصنفيهم، ذكر جزاء أهل الخير ليعلم منه جزاء أولئك، فقال مبينًا أنهم ملوك لكن ملكهم لا ينافس فيه ولا يحاسد، بل هو كله يقابل بالوداد والصفاء {على سرر} وهو ما يسر الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة التي هي آية الملك وهو العرش {موضونة} أي منسوجة نسجًا مضاعفًا منضودة داخلًا بعضها في بعض مقارب النسج معجبًا كالدرع لكن نسجها بالذهب مفصلًا بالجوهر من الدر والياقوت.
ولما ذكر السرر وبين عظمتها، ذكر غايتها فقال: {متكئين} أي متكئين هيئة المتربع أو غيرها من الجنب أو غيرها {عليها} ولما كان الجمع إذا كثر كان ظهور بعض أهله إلى بعض، أعلم أن جموع أهل الجنة على غير ذلك فقال: {متقابلين} فلا بعد ولا مدابرة لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ولا يكره بعضهم بعضًا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الفاء تدل على التفسير، وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال: (أزواجًا ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) إلخ، ثم بين حال كل قوم، فقال: {مَا أصحاب الميمنة} فترك التقسيم أولًا واكتفى بما يدل عليه، فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، وسبق قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثلاثة} يغني عن تعديد الأقسام، ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها.
المسألة الثانية:
{أصحابُ الميمنة} هم أصحاب الجنة، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى، كما قال تعالى: {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} [الحديد: 12] وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير، والعرب تتفاءل بالسانح، و(هو) الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره، حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحًا غير قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه، فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول: إن الكبد في الجانب الأيمن، وبها قوة التغذية، والطحال في الجانب الأيسر، وليس فيه قوة ظاهرة النفع فصار الجانب الأيمن قويًا لمكان الكبد على اليمين؟ فنقول: هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال، وتخصيص الله اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله، فضلوا اليمين على الشمال، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر، وقيل: لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين، ووضعوا له لفظًا على وزن العزيز، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير، ومالا يتغير كالطويل والقصير، وقيل له: اليمين، وهو يدل على القوة، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن، وهو الفعال، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر، فيقال: يا فجار يا فساق يا خباث، وقيل: اليمين اليسار، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين، وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا: ملعبة.
المسألة الثالثة:
جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة، يمينه وشماله، وخلفه وقدامه، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن، وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين، ثم إنه تعالى لم يقل: في مقابلتهم قومًا يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32] لم يقل: منهم متخلف عن الكل.
المسألة الرابعة:
ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب والجواب: أن نقول: ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعًا عن المعصية، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب، فلما ذكر تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله فإن السابق يناله ما يناله بجذب، وإليه الإشارة بقوله: جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة.
المسألة الخامسة:
ما معنى قوله: {مَا أصحاب الميمنة}؟ نقول: هو ضرب من البلاغة وتقريره هو أن يشرع المتكلم في بيان أمر ثم يسكت عن الكلام ويشير إلى أن السامع لا يقدر على سماعه كما يقول القائل لغيره: أخبرك بما جرى عليَّ ثم يقول هناك هو مجيبًا لنفسه لا أخاف أن يحزنك وكما يقول القائل: من يعرف فلانًا فيكون أبلغ من أن يصفه، لأن السامع إذا سمع وصفه يقول: هذا نهاية ما هو عليه، فإذا قال: من يعرف فلانًا بفرض السامع من نفسه شيئًا، ثم يقول: فلان عند هذا المخبر أعظم مما فرضته وأنبه مما علمت منه.
المسألة السادسة:
ما إعرابه ومنه يعرف معناه؟ نقول: {فأصحاب الميمنة} مبتدأ أراد المتكلم أن يذكر خبره فرجع عن ذكره وتركه وقوله: {مَا أصحاب الميمنة} جملة استفهامية على معنى التعجب كما تقول: لمدعي العلم ما معنى كذا مستفهمًا ممتحنًا زاعمًا أنه لا يعرف الجواب حتى إنك تحب وتشتهي ألا يجيب عن سؤالك ولو أجاب لكرهته لأن كلامك مفهوم كأنك تقول: إنك لا تعرف الجواب، إذا عرفت هذا فكأن المتكلم في أول الأمر مخبرًا ثم لم يخبر بشيء لأن في الأخبار تطويلًا ثم لم يسكت وقال ذلك ممتحنًا زاعمًا أنك لا تعرف كنهه، وذلك لأن من يشرع في كلام ويذكر المبتدأ ثم يسكت عن الخبر قد يكون ذلك السكوت لحصول علمه بأن المخاطب قد علم الخبر من غير ذكر الخبر، كما أن قائلًا: إذا أراد أن يخبر غيره بأن زيدًا وصل، وقال: إن زيدًا ثم قبل قوله: جاء وقع بصره على زيد ورآه جالسًا عنده يسكت ولا يقول جاء لخروج الكلام عن الفائدة وقد يسكت عن ذكر الخبر من أول الأمر لعلمه بأن المبتدأ وحده يكفي لمن قال: من جاء فإنه إن قال: زيد يكون جوابًا وكثيرًا ما نقول: زيد ولا نقول: جاء، وقد يكون السكوت عن الخبر إشارة إلى طول القصة كقول القائل: الغضبان من زيد ويسكت ثم يقول: ماذا أقول عنه.
إذا علم هذا فنقول لما قال: {فأصحاب الميمنة} كان كأنه يريد أن يأتي بالخبر فسكت عنه ثم قال في نفسه: إن السكوت قد يوهم أنه لظهور حال الخبر كما يسكت على زيد في جواب من جاء فقال: {مَا أصحاب الميمنة} ممتحنًا زاعمًا أنه لا يفهم ليكون ذلك دليلًا على أن سكوته على المبتدأ لم يكن لظهور الأمر بل لخفائه وغرابته، وهذا وجه بليغ، وفيه وجه ظاهر وهو أن يقال: معناه أنه جملة واحدة استفهامية كأنه قال: وأصحاب الميمنة ما هم؟ على سبيل الاستفهام غير أنه أقام المظهر مقام المضمر وقال: {فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة} والإتيان بالمظهر إشارة إلى تعظيم أمرهم حيث ذكرهم ظاهرًا مرتين وكذلك القول في قوله تعالى: {وأصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة} وكذلك في قوله: {الحاقة مَا الحاقة} [الحاقة: 1، 2] وفي قوله: {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1، 2].
المسألة السابعة:
ما الحكمة في اختيار لفظ {المشئمة} في مقابلة {الميمنة}، مع أنه قال في بيان أحوالهم: {وأصحاب الشمال مَا أصحاب الشمال}؟ نقول: اليمين وضع للجانب المعروف أولًا ثم تفاءلوا به واستعملوا منه ألفاظًا في مواضع وقالوا: هذا ميمون وقالوا: أيمن به ووضعوا للجانب المقابل له اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، فصار في مقابلة اليمين كيفما يدور فيقال: في مقابلة اليمنى اليسرى، وفي مقابلة الأيمن الأيسر، وفي مقابلة الميمنة الميسرة، ولا تستعمل الشمال كما تستعمل اليمين، فلا يقال: الأشمل ولا المشملة، وتستعمل المشأمة كما تستعمل الميمنة، فلا يقال: في مقابلة اليمين لفظ من باب الشؤم، وأما الشآم فليس في مقابلة اليمين بل في مقابلة يمان، إذا علم هذا فنقول: بعد ما قالوا باليمين لم يتركوه واقتصروا على استعمال لفظ اليمين في الجانب المعروف من الآدمي، ولفظ الشمال في مقابلته وحدث لهم لفظان آخران فيه أحدهما: الشمال وذلك لأنهم نظروا إلى الكواكب من السماء وجعلوا ممرها وجه الإنسان وجعلوا السماء جانبين وجعلوا أحدهما أقوى كما رأوا في الإنسان، فسموا الأقوى بالجنوب لقوة الجانب كما يقال: غضوب ورءوف، ثم رأوا في مقابلة الجنوب جانبًا آخر شمل ذلك الجانب عمارة العالم فسموه شمالًا واللفظ الآخر: المشأمة والأشأم في مقابلة الميمنة والأيمن، وذلك لأنهم لما أخذوا من اليمين اليمن وغيره للتفاؤل وضعوا الشؤم في مقابلته لا في أعضائهم وجوانبهم تكرهًا لجعل جانب من جوانب نفسه شؤمًا، ولما وضعوا ذلك واستمر الأمر عليه نقلوا اليمين من الجانب إلى غيره، فالله تعالى ذكر الكفار بلفظين مختلفين فقال: {وأصحاب المشئمة}.
{وأصحاب الشمال} [الواقعة: 41] وترك لفظ الميسرة واليسار الدال على هون الأمر، فقال ههنا: {وأصحاب المشئمة} بأفظع الاسمين، ولهذا قالوا في العساكر: الميمنة والميسرة اجتنابًا من لفظ الشؤم.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها: {والسابقون} عطف على {وأصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] وعنده تم الكلام، وقوله: {والسابقون} {أولئك المقربون} جملة واحدة والثاني: أن قوله: {والسابقون السابقون} جملة واحدة، كما يقول القائل: أنت أنت وكما قال الشاعر:
أنا أبو النجم وشعري شعري

وفيه وجهان أحدهما: أن يكون لشهرة أمر المبتدأ بما هو عليه فلا حاجة إلى الخبر عنه وهو مراد الشاعر وهو المشهور عند النحاة والثاني: للإشارة إلى أن في المبتدأ مالا يحيط العلم به ولا يخبر عنه ولا يعرف منه إلا نفس المبتدأ، وهو كمايقول القائل لغيره أخبرني عن حال الملك فيقول: لا أعرف من الملك إلا أنه ملك فقوله: {والسابقون السابقون} أي لا يمكن الإخبار عنهم إلا بنفسهم فإن حالهم وما هم عليه فوق أن يحيط به علم البشر وههنا لطيفة: وهي أنه في أصحاب الميمنة قال: {مَا أصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] بالاستفهام وإن كان للإعجاز لكن جعلهم مورد الاستفهام وههنا لم يقل: والسابقون ما السابقون، لأن الاستفهام الذي للإعجاز يورد على مدعي العلم فيقال له: إن كنت تعلم فبين الكلام وأما إذا كان يعترف بالجهل فلا يقال له: كذبت ولا يقال: كيف كذا، وما الجواب عن ذلك، فكذلك في: {والسابقون} ما جعلهم بحيث يدعون، فيورد عليهم الاستفهام فيبين عجزهم بل بنى الأمر على أنهم معترفون في الابتداء بالعجز، وعلى هذا فقوله تعالى: {والسابقون السابقون} كقول العالم: لمن سأل عن مسألة معضلة وهو يعلم أنه لا يفهمها وإن كان أبانها غاية الإبانة أن الأمر فيها على ما هو عليه ولا يشتغل بالبيان وثالثها: هو أن السابقون ثانيًا تأكيد لقوله: {والسابقون} والوجه الأوسط هو الأعدل الأصح، وعلى الوجه الأوسط قول آخر: وهو أن المراد منه أن السابقين إلى الخيرات في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى.